يعد العلامة الشيخ عبد الرحمن الكواكبي (ولد في حلب العام 1855، وتوفي في القاهرة مسموماً عام 1902)، من ممثلي التيار والاتجاه الإسلامي التنويري والطليعة المثقفة الواعية، التي سعت إلى تلمس وتشخيص الداء في العطب الاجتماعي، واصطدمت أفكارها التجديدية ومعارفها العلمية وتطلعاتها الثورية نحو الحرية والديمقراطية بميراث الأمية والتخلف والطغيان والاستبداد.
كان الكواكبي محامياً وكاتباً وصاحب عِلم شرعي، وقد ضمّن كتبه تحليلاً دقيقاً وعميقا للأمراض والأوبئة السياسية والاجتماعية التي كانت تعاني منها الأمتان العربية والإسلامية في مطالع القرن العشرين بمشرق الأرض ومغربها.
وقد شنَّ حملات شديدة وعنيفة على السلطة العثمانية القمعية، ودعا إلى الحرية السياسية وإحترام النهج العقلاني في التفكير، وإلى الكفاح السياسي المنظم ضد السيطرة الاستبدادية التركية والاستعمارية الغربية، ولقد كان شعور الكواكبي بالظلم ورهافة إحساسه بالحرية وعشقه لها، الدافع الأول لمواقفه وآرائه التي جعلته يصارع طغيان العثمانيين، رغم ما قاساه من آلام الغربة والهجرة، ووحشة السجن وعذاب الاضطهاد، كما كان له إلى جانب ذلك تأييد الناس ومساندتهم لجهوده وجهاده الفكري.
ولقد تفرد صاحب "الرّحالة ك. طبائع الإستبداد ومصارع الاستعباد" و"أم القرى"، بين مفكري عصر النهضة، وروّاد الإصلاح الديني، بتكريس جهوده الفكرية والعملية لتنبيه قومه على مخاطر الاستبداد وضرورة الحياة الدستورية الديمقراطية باعتبار أن ذلك هو المدخل الوحيد للخروج من دائرة الانحطاط. وفي هذا الإطار، كان كتابه "طبائع الاستبداد" أول مؤلف في اللغة العربية يكرّسه صاحبه لتشريح آليات الاستبداد ومفاعيله الفتاكة بالبنية الاجتماعية.
وفي هذه المقالة سنسلط الأضواء على هذا الكتاب، لمناسبة صدوره مطلع هذا العام ولأول مرة باللغة الفرنسية، عن "دار سندباد - أكت سود" الباريسية، ضمن سلسلة يشرف عليها المثقف السوري المخضرم فاروق مردم بيك، بترجمة حققتها مواطنته الصحفية والمترجمة هالة القضماني، وبتقديم حرره الباحث سلام كواكبي، حفيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، وأستاذ العلوم السياسية في باريس (ونائب مدير مبادرة "الإصلاح العربي"). وقد تزامن صدور الكتاب بلغة "موليير"، مع صدور طبعة سابعة -عن دار صفحات للدراسات والنشر في دمشق-، من النسخة المُحققة التي أنجزها الدكتور محمد جمال الطحان (مدير مركز أبحاث الوعد السوري) ومحقّق أعمال الكواكبي الكاملة.
إرث الكواكبي مصدر قلق للمستبد الحديث..
عن صدور كتاب الكواكبي بحلّة باريسية، يقول "الكواكبي الحفيد": "ما يمكننا قوله عن الإصدار الأول باللغة الفرنسيّة لهذه الوثيقة المرجعية حول تجديد الفكر العربي والإسلامي. إنها ولو كانت خطوة متأخرة، لكنها تقع في اللحظة المناسبة لتسليط الضوء على النقاشات التي تهز أحداثنا اليومية الملتهبة". مضيفًا أن: "الكتابة عن علمٍ من أعلام الفكر النهضوي مهمة صعبة بالمطلق. وأن ينبري حفيد عبد الرحمن الكواكبي إلى تقديم هذه الوثيقة التاريخية والتي تنشر لأول مرة باللغة الفرنسيّة، يضع على كاهله مسؤولية ذات بعدين، علمي وعاطفي..".
ويشير سلام الكواكبي أنه "في حقبة ربيع دمشق الموءود بداية الألفية الثانية، قام بعض المثقفين في حلب بتأسيس "منتدى الكواكبي للحوار الديمقراطي" والذي سرعان ما تم منعه وإغلاقه في إطار عقلية إقصائية وتسلطية تحرم المجتمع من أي فسحة حوار أو تعبير عن الرأي في دولة أمضت عقوداً خمسة في ظل مصادرة المجال العام، وفي جو من التصحّر والتصحير الثقافي والفكري. متابعاً: "في سنة 2002، شاركت في تنظيم ندوة فكرية مع الصديق ماهر الشريف حول "مآلات الفكر النهضوي في تيار الإصلاح الديني"، وذلك بمناسبة مرور مائة عام على وفاة الكواكبي. وهاجمني حينذاك، وبتحريضٍ من السلطات، رجال دين رسميون – يسميهم الكواكبي بالمتعممين - معتبرين أنني، وبالحرف، قد جمعت الشيوعيين والملحدين والعلمانيين والماسونيين وعملاء الإمبريالية للتحريض على الإسلام".
فهمت بشدة، بأن الحديث عن التنوير في ظل الظلامية الدينية المبرمجة من قبل السلطات التي تدعي العلمانية هو خطيئة لا تغتفر. ومنذ ذاك الوقت، بدا أن هذا الإرث الوطني أصبح مصدر قلق للمستبد الحديث. وعلى الرغم من إيراده في الكتب المدرسية كمفكر سوري يُفتخر به، إلا أن تدريسه اقتصر على سرديات لا تغني ولا تثمن. وقامت الندوات الفولكلورية للحديث عن أعماله بعيداً عن كتابه الأهم والأبرز (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)".
ويرى "الكواكبي الحفيد" أن "التنويري السوري عبد الرحمن الكواكبي حاول أن يتبصّر قواعد الاستبداد القامع للحريات بالمجمل ولحرية التعبير بالأخص. وما زالت اليوم صرخته المتألمة تتردد حاملة معها الكثير من الخيبة والأسف على سرعة دوران عجلة الزمن إلى الأمام، وتقهقر عجلة الحريات إلى الخلف. وهو الذي كان قد تمنى قبل وفاته، أن ينساه الناس، وينسوا ما كتبه ودعى إليه، بعد مرور بعض من الوقت، لاقتناعه بأن صيرورة التطور البشري ستغير أساليبها السياسية والفكرية نحو الأفضل ويتم بالتالي تجاوز الاستبداد بمختلف أشكاله والانتقال إلى نوع متطور من ممارسة الحياة العامة القائمة على ما أسماه بالديمقراطية الدستورية التي تحكم مختلف أوجه الحياة وتدفع بالمجتمعات إلى تطوير علمها ومعارفها ومكتسباتها وتشكل الأساس للخروج من دائرة الانحطاط التي يحاول المستبد أن يحافظ على هيمنتها. ولم يرد في ذهن الكواكبي أن الاستبداد سيتمكن، وبعد عقود عديدة، من تطوير أدواته وأن يعيد إنتاج ذاته على نحو أكثر صلابة ودموية، بحيث يتم استلهام آخر الابتكارات التقنية لزيادة الرقابة على المجتمعات والحد من تطلعاتها إلى حياة أفضل وتعبير أقل تقييداً ويمارس الفتك بها إن هي عبرت عن الرغبة السلمية بالتحرر".
ويؤكد أستاذ العلوم السياسية ونائب مدير مبادرة "الإصلاح العربي" (المقيم في باريس)، أن "استعادة النصوص التي أنتجها (الكواكبي) تكاد تجعل تاريخ ومكان الكتابة مجال التباس للقارئ وحتى المسؤول. مستذكراً أن نشر مقتطفات من كتابات جده أطاحت برئيس تحرير مجلة أدبية في دمشق في نهاية سبعينيات القرن الماضي ظنّا من السلطات الأمنية السورية بأن الكاتب والنص معاصران أو بأن نشر النص في مرحلة سياسية حساسة يُقصد به التحريض ضد الإستبداد المتجدد. وبالتالي، فكتابات الكواكبي كانت تشكل دائمًا خطراً وتهديداً لاستقرار الأنظمة المتسلطة على امتداد القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
وعن الدوافع الرئيسية لاستحضار الشيخ عبد الرحمن الكواكبي في الثقافة الغربية الآن، يبين سلام الكواكبي أن "أغلب الأدبيات الغربية في مجال العلوم الاجتماعية تُجمع على منح فكر عصر الأنوار الأوربي دوراً أساسياً في تكوين مفهوم حقوق الإنسان لدى النخب العربية والمسلمة. وباستثناء قلة، فإن الباحثين في الغرب يفسرون ظاهرة تكون الوعي بحقوق الإنسان عبر دخول الأفكار التقدمية الأوروبية المترجمة. هذا الوضع دفع الناشطين في الحقل الحقوقي في العقود الأخيرة للبحث عن مرجعية فكرية عربية وإسلامية للمفاهيم الكونية والتي تأتي حقوق الإنسان على رأس قائمتها. وقد حفّز هذا على القيام بإبراز مفكرين كالكواكبي للإجابة على السؤال الآتي: هل حقوق الإنسان والديمقراطية هي أجسام غريبة جرت زراعتها في الشرق، أم أنها ظواهر ذات صدى كوني وهي متواجدة في الإطار الحضاري للمنطقة أيضًا؟".
دمشق تستعيد الكواكبي بزمن القهر..
يعد هذا الكتاب ـ الذي ألفه الكواكبي باسم مستعار، هو (الرحالة كاف) بعد أكثر من مائة عام من كتابته ـ أحد عوامل النهضة في تاريخ العرب الحديث ومرشدهم إلى التخلص من استبداد السلاطين العثمانيين. والجميل فيه أنه لا يصدر عن حقد، ولا يدعو إلى انتقام، وغير موجه إلى حاكم بعينه، أو دولة محددة. إنه صرخة فيلسوف مؤمن، عالم متألم، يكشف أخطر داء يمكن أن يصيب شعباً من الشعوب، ويصف له الدواء الشافي محاولاً عدم بتر أي عضو من أعضاء الجسم، وهو إلى يومنا هذا كأنه شاهد عيان يتكلم عن وقائع وأحداث معاصرة.
يقول د. محمد جمال الطحان، محقّق الأعمال الكاملة للكواكبي، في مقدمته للطبعة السابعة الصادرة في دمشق: إن كتاب (طبائع الاستبداد) هو أهم ما كتب الكواكبي، ومن خلاله استطاع أن ينهض بفكره وسط القمع والجهل والتخلّف". مضيفاً: " إنّنا نقدّم هنا مقارنةً بين طبعات مختلفة للكتاب النّفيس (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، ونختار النّصوص بدقّةٍ من بين ما يزيد على ثلاثين طبعةٍ مختلفة، ونحصّنها بالحواشي والتّفسيرات الضرورية، ونعرّف بالأعلام والمعالم الوارد ذكرها في الكتاب، ولم نتوان عن توصيف الكتاب، وعن تقديم دراسةٍ تحليليّة وافية لطبائع الاستبداد".
وعن صدور الكتاب باللغة الفرنسيّة، يرى د. طحان أنّ العام 2016 أقبل ببشرى عظيمة هي صدور "طبائع الاستبداد" في ترجمته إلى الفرنسيّة، فتنكسر شوكة الأسى الذي نعانيه مما يحدث في العالم من قتل وتخريب وتهجير وتفجير واعتقال، فلعلّ عودة الكواكبي بحلّة فرنسية توقظ العالم لينتبه إلى أفعال الاستبداد الشنعاء التي باتت تتخذ لنفسها أشكالًا جديدة من تعميم القهر، وتغلغله عبر البلاد.
مضيفًا أن الكتاب، بالفرنسيّة، يشكّل منعطفاً مهمّاً في مسار حوار الحضارات وتلاقح الثقافات. كيف لا، وهو يدقّ نواقيس خطر امتداد الاستبداد الذي يمدّ أذرع خطره الداهم إلى حيث يمكنه الوصول فينشر الجهل ويعمم ثقافة القتل، حتى ترى البشرية "التي قتل الاستبداد فيها كلَّ الأميال الشريفة العالية فأبعدها عن الأنس والإنسانية، حتّى صار الفلاح التعيس منها يؤخذ للجندية وهو يبكي، فلا يكاد يلبس كمَّ السترة العسكرية إلا ويتلبَّس بشرِّ الأخلاق، فيتنمّر على أمه وأبيه، ويتمرّد على أهل قريته وذويه، ويكظُّ أسنانه عطشًا للدماء لا يميّز بين أخٍ وعدو".
ويبين د. طحان أنه في القرن قبل الماضي، وفي ظروف القهر والجهل والجوع، وتحت سياط الاستبداد، ومع غياب وسائل الاتّصال السريع، أبدع الكواكبي صحيفتيه "الشهباء" و"اعتدال" بتمويل ذاتيّ وجهد فرديّ، حيث كان الكاتب والطابع والموزّع. كما ألّف "أم القرى" بشكل روائي جعل كثيراً من الباحثين يظنوّن أنّه سجلّ لوقائع حقيقية. ووضع "طبائع الاستبداد" مبيّنا علاقاته المختلفة، وفاضحًا الفجائعية التي يضفيها على العالم.
تشخيص الداء وسبل الخلاص منه..
في هذا الكتاب "الرّحالة ك. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، يعالج الكواكبي موضوع الاستبداد، مستعرضاً طبائعه وما ينطوي عليه من سلبيات تؤدي إلى خوف المُستبِد وإلى استيلاء الجبن على رغبته إلى جانب انعكاسات الاستبداد على جميع مناحي الحياة الإنسانية بما فيها الدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والترقي والتربية والعمران ومن خلال التساؤلات يشرح من هم أعوان المُستبِد وهل يمكن أن يتحمل الإنسان ذلك الاستبداد وبالتالي كيف يكون الخلاص منه وما هو البديل عنه.
يقول الكواكبي في فاتحة كتابه: "حيثُ إني قد تمحّص عندي أنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي ودواؤه دفعه بالشّورى الدّستورية. وقد استقرَّ فكري على ذلك ـ كما أنّ لكُلّ نبأ مستقراً ـ بعد بحث ثلاثين عاماً... بحثاً أظنّهُ يكاد يشمل كلّ ما يخطرُ على البال من سبب يتوهّمُ فيه الباحث عند النظرةِ الأولى، أنهُ ظفر بأصل الدّاء أو بأهمّ أصوله، ولكنْ؛ لا يلبث أنْ يكشف له التّدقيق أنّه لم يظفر بشيء، أو أنّ ذلك فرعٌ لا أصل، أو هو نتيجة لا وسيلة.
فالقائل مثلًا: إن أصل الداء التهاون في الدين، لا يلبث أن يقف حائراً عندما يسأل نفسه لماذا تهاون الناس في الدين؟ والقائل: إن الداء اختلاف الآراء، يقف مبهوتاً عند تعليل سبب الاختلاف فإن قال سببه الجهل يشكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أشد وأقوى.. وهكذا يجد نفسه في حلقة مفرغة لا مبدأ لها فيرجع إلى القول: هذا ما يريده الله بخلقه، غير مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأن الله حكيم عادل رحيم".
ويضيف الكواكبي: "إن المستبد يتخذ الممجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين أو حب الوطن أو تحصيل منافع عامة أو الدفاع عن الاستقلال. والحقيقة في بطلان كل هذه الدواعي الفخيمة التي ما هي إلا تخيل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها حتى إنه لا يستثنى منها الدفاع عن الإستقلال، لأنه ما الفرق على أمة مأسورة لزيد أن يأسرها عمر؟ وما مثلها إلا الدابة التي لا يرحمها راكب مطمئن، مالكًا كان أو غاصباً".
والقارئ للكتاب يتوقف عند محاولات الشيخ الكواكبي الإجابة عن مجموعة من الأسئلة مثل: هل الإستبداد حالة مرافقة لمراحل انحطاطنا المتصلة طبعاً بالفساد بالصدفة أم لعله المسبب والمرسخ والموطد؟ من جاء بالآخر؟ هل الاستبداد ولّد الفساد أم الفساد «استدعى» الاستبداد؟ أليس الحل للتفشي السرطاني للفساد مزيدًا من الاستبداد؟ ثم من أين سنأتي بحكام غير مستبدين وغير ناشرين للفساد؟ ألم يخرجوا كلهم وكل سابقيهم من رحم هذه الأمة؟ هل نحن أمة عبيد أم أمة من ولدوا أحراراً واستعبدوا لاحقًا؟ أي منهما العربة ومن هو الحصان؟ طبعًا الاستبداد مؤسسة حية متحركة فهو الحصان واللنحطاط حالة أي حاوية لحالنا فهو العربة المركوبة!!.
هل الرفع من شأن الحرية الفردية ومقارعة الإستبداد من أصول تراثنا الديني أو الثقافي الحضاري، أم بدعة غربية، وتقليد للغرب؟ ولماذا الآن تحديدًا وحرية الأوطان مسلوبة أو مهددة أو- مؤجرة -؟.
هل الاستبداد خصوصية إسلامية أو عربية أو قطرية -لا فرق- بالرغم من تلازمه الطويل بتاريخنا؟ ولكن أليست الحرية والإصلاح والتحديث حديثي العهد عند الغرب وبنات الساعة الأخيرة من يوم الحضارة الإنسانية -عصر التنوير ابتدأ بالبزوغ في القرن الخامس عشر-. هل الحرية وتداول السلطة وفصل السلطات وصيانة حرية الفكر حكر على الغرب المتقدم؟ أم نتيجة لاحتكاك الغرب مع فكر ابن رشد وابن خلدون وخروجه من قمقم الاستبداد الديني وجحر الاستبداد السياسي؟.
هل الخوض في غمار هذا الإشكال ترف فكري واصطدام مع الموروث الديني والحضاري وإبحار في المجهول في لحظات حاسمة؟.
أنبتدئ بإصلاح أنفسنا آم ندع الآخر يتنطع لهذه المهمة متدخلًا أو محتلًا؟ أنصلح أنفسنا أم نطلب من حكامنا أن يصلحونا؟ وهم أنفسهم من يصلحهم أم تراهم معصومين؟ وإذا كانت الأولوية لإصلاح الفكر أنبتدئ بإصلاح ديني أولًا أم إصلاح سياسي ومن أين نبدأ؟ وكيف؟.
كل هذه التساؤلات التي طرحها الشيخ الكواكبي، هي تساؤلات الحاضر أيضاً، وقد أجاب عليها منذ قرن ونيف، دون الخوف من اتهامه بالكفر أو بالعمالة والخيانة أو بتثبيط همة الأمة وتغريبها موجهاً اللوم والاتهام (إلينا) قبل أن يوجهها إلى أسلافه من المفكرين بالتقصير.
في تعريف الاستبداد لغة واصطلاحًا؟..
يقول الشيخ الكواكبي في فصل "ما هو الاستبداد" معرفًا: "الاستبداد لغةً هو: غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النّصيحة، أو الاستقلال في الرّأي وفي الحقوق المشتركة. ويُراد بالاستبداد عند إطلاقه إستبداد الحكومات خاصّةً؛ لأنّها أعظم مظاهر أضراره التي جعلتْ الإنسان أشقى ذوي الحياة. وأما تحكّم النّفس على العقل، وتحكُّم الأب والأستاذ والزّوج، ورؤساء بعض الأديان، وبعض الشركات، وبعض الطّبقات؛ فيوصف بالإستبداد مجازًا أو مع الإضافة.
والاستبداد في اصطلاح السّياسيين هو: تَصَرُّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة، وقد تَطرُق مزيدات على هذا المعنى الاصطلاحي فيستعملون في مقام كلمة (استبداد) كلمات: استعباد، واعتساف، وتسلُّط، وتحكُّم. وفي مقابلتها كلمات: مساواة، وحسّ مشترك، وتكافؤ، وسلطة عامة. ويستعملون في مقام صفة (مستبدّ) كلمات: جبّار، وطاغية، وحاكم بأمره، وحاكم مطلق. وفي مقابلة (حكومة مستبدّة) كلمات: عادلة، ومسؤولة، ومقيّدة، ودستورية. ويستعملون في مقام وصف الرّعية (المستَبَدّ عليهم) كلمات: أسرى، ومستصغرين، وبؤساء، ومستنبتين، وفي مقابلتها: أحرار، وأباة، وأحياء، وأعزّاء".
هذا تعريف الاستبداد بأسلوب ذكر المرادفات والمقابلات، وأمّا تعريفه بالوصف فهو: "أنّ الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلًا أو حكمًا، التي تتصرّف في شؤون الرّعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقَّقَين. وتفسير ذلك هو كون الحكومة إمّا هي غير مُكلّفة بتطبيق تصرُّفها على شّريعة، أو على أمثلة تقليدية، أو على إرادة الأمّة، وهذه حالة الحكومات المُطلقة. أو هي مقيّدة بنوع من ذلك، ولكنّها تملك بنفوذها إبطال قوّة القيد بما تهوى، وهذه حالة أكثر الحكومات التي تُسمّي نفسها بالمقيّدة أو بالجمهورية.
وأشكال الحكومة المستبدّة – كما يرى الشيخ الكواكبي- كثيرة ليس هذا البحث محلُّ تفصيلها. ويكفي هنا الإشارة إلى أنّ صفة الاستبداد، كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولّى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضاً الحاكم الفرد المقيَّد المنتخب متى كان غير مسؤول، وتشمل حكومة الجمع ولو منتخباً؛ لأنَّ الاشتراك في الرّأي لا يدفع الاستبداد، وإنَّما قد يعدّله الاختلاف نوعاً، وقد يكون عند الاتّفاق أضرّ من استبداد الفرد. ويشمل أيضاً الحكومة الدّستورية المُفرَّقة فيها بالكُلِّيَّة قوَّة التشريع عن قوَّة التَّنفيذ وعن قوَّة المراقِبة؛ لأنَّ الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية، فيكون المُنَفِّذُون مسؤولين لدى المُشَرِّعين، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمَّة، تلك الأمَّة التي تعرف أنَّها صاحبة الشّأن كلّه، وتعرف أنْ تراقب وأنْ تتقاضى الحساب".
ويرى الشيخ عبد الرحمن الكواكبي أن "أشدّ مراتب الاستبداد التي يُتعوَّذ بها من الشّيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. ولنا أنْ نقول كلّما قلَّ وَصْفٌ منْ هذه الأوصاف؛ خفَّ الاستبداد إلى أنْ ينتهي بالحاكم المنتخب المؤقت المسؤول فعلًا. وكذلك يخفُّ الإستبداد ـ طبعاًـ كلّما قلَّ عدد نفوس الرَّعية، وقلَّ الارتباط بالأملاك الثّابتة، وقلَّ التّفاوت في الثّروة وكلّما ترقَّى الشّعب في المعارف".
والاستبداد عند الكواكبي يتحكم بالحقائق حين يسمي الغازي المحتل بالعظيم، وينظر بإجلال إلى من ساهم بقتل الإنسان والى من أسرف بخراب العمران . والأخلاق عند الكواكبي ثمار بذورها الوراثة وتربتها التربية وسقيها العلم، والقائم عليها هم رجال الحكومة.
وبعد المقدمة وفصل "ما هو الاستبداد" يعرض الكواكبي في كتابه العلاقة بين الاستبداد وكل من الدين، والعلم، والمجد، والمال، والأخلاق، والتربية، والترقي لينهي كتابه بباب "الاستبداد والتخلص منه".
ونجده يسهب ويشدد تركيزه على مبحثي "الاستبداد والدين"، و"الاستبداد والأخلاق"، ومجهوده القيم في المبحثين على درجة فائقة من الإدراك العميق والجرأة النادرة وروح من الألم المتشرب في روحه العاشقة للحرية ليس عاطفياً وإنما عقلياً قبل كل شيء ومن الغيرة على مستقبل الأمة التي لا يجد لها مكاناً تحت الشمس إلا بزوال الاستبداد السياسي وتفرعاته.
وفي مبحث "الاستبداد والدين" يشرح الكواكبي العلاقة النفعية المتبادلة غير الشريفة بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي مشيراً إلى: "تضافر آراء العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة إلى التعاون لتذليل الإنسان، والفريقان مصيبان في حكمهما بالنظر إلى مغزى أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الإنجيل، ومخطؤون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما، كما هم مخطؤون إذا نظروا إلى أن القرآن الكريم جاء مؤيدًا للاستبداد السياسي، وليس من العذر شيء أن يقولوا نحن لا ندرك دقائق القرآن نظراً لخفائها علينا في طي بلاغته ووراء العلم بأسباب نزول آياته، وإنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبديهم بالدين.
أما في مبحث "الاستبداد والأخلاق"، فيرى المفكر النهضوي أن "الاستبداد يضعف الأخلاق ويفسدها أو يمحوها، ويجعل الإنسان حاقد، ويفقده حُب وطنه ويكرهه عائلته، يصبح به الناس غير حريصين على أي شيء. يسلب الراحة الفكرية، ويمرض العقول ويخل بالشعور ويضعف الإدراك ويقلب الموازين، فمطالب الحق فاجر، وتارك الحق مطيع، والمُشتكي مُفسد النية، والباحث مُلحد، والخامل صالح، والغيرة عداوة، والشهامة عتوا، والحمية حماقة، والرحمة مرض، والنفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لُطف، والنذالة دمث".
ومن الخلاصات التي يبينها الباحث سلام الكواكبي أن جده الأكبر الشيخ عبد الرحمن الكواكبي جمع في منجزه هذا بين لغة الخطابة التحريضية الشديدة التأثير، كنداء للعمل، ودعوة للنضال ضد الاستبداد من جهة، ومن جهة أخرى، اللغة التحليلية العميقة التي تحاول أن تحيط بمجمل آليات الدولة الاستبدادية، وكأنه أراد به أن يؤسس لنظرية "الدولة التسلطية" فضلًا عما ضمنه من تشخيص لبعض السلوكات الاجتماعية المرافقة للاستبداد، ينتسب موضوعها إلى علم النفس الاجتماعي. مضيفًا: "أن "الكتابات التقدمية" غيبت هذا الجانب من فكر الكواكبي، لحساب نقده للإجتماع السياسي العثماني، وللرابطة العثمانية وما طرحه من ارهاصات لـ"الفكرة العربية"، فحصرت نقده للاستبداد بالاستبداد "الحميدي" (نسبة إلى السلطان عبد الحميد) فحسب، متناسية أن الكواكبي تناول الاستبداد بما هو استبداد".
وفي ختام مقالتنا، يوضح "الكواكبي الحفيد" أنه شرح في مقدمته للطبعة الفرنسية أهمية صدور هذه الترجمة، في زمننا هذا المليء بالأحداث المرتبطة مباشرة بما احتوته كلماته. "السلطة الشمولية"، "الفصل بين الدين والدولة"، "إخضاع الشعوب"، "شروط تحرر المجتمعات المسلمة"، كما عناوين أخرى. مشيراً إلى أن القارئ الفرنسي سيُفاجئ بأن ما طرحه الكتاب من أفكار ومن أسئلة ومن توصيات، قد تم التفكير بها وكتابتها منذ فترة بعيدة وما زالت إلى يومنا هذا مطروحة في الساحة الإسلامية. "كما نوّهت إلى أن الكواكبي كان يتمنى بأن يتم نسيان نصوصه بعد فترة وجيزة متفائلًا بقدر الشعوب على استرجاع حريتها. ولكن صرخته القوية حينذاك ما زالت تقض مضاجع المستبدين بكل صنوفهم حتى يومنا هذا. ولم يخطر بباله بأن الاستبداد سيتجذّر مجترعًا طرائق وأساليب حديثة في سبيل ذلك. كما أشرت أيضاً في المقدمة إلى أنه العمل الفكري العربي الأول الذي حلّل ميكانيكيات الاستبداد وندّد بنتائجه المدمرة في كافة ميادين الحياة. وفي النهاية، لا تخلو المقدمة من الشخصي والعلاقة التي ما زالت تربطني بإرثه الأخلاقي والفكري".